فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}.
أي ليبيّن لكم أمرَ دينكم ومصالح أمرِكم، وما يحلّ لكم وما يحرمُ عليكم.
وذلك يدل على امتناع خلوّ واقعة عن حكم الله تعالى؛ ومنه قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] على ما يأتي.
وقال بعد هذا: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] فجاء هذا بأن والأوّل باللام.
فقال الفرّاء: العرب تعاقب بين لام كي وأن؛ فتأتي باللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت وأمرت؛ فيقولون: أردت أن تفعل، وأردت لتفعل؛ لأنهما يطلبان المستقبل.
ولا يجوز ظننت لتفعل؛ لأنك تقول ظننت أن قد قمت.
وفي التنزيل {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} [الأنعام: 71] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف: 8] {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} [التوبة: 32].
قال الشاعر:
أُريد لأنْسَى ذكرها فكأنما ** تُمَثّلُ لي لَيْلَى بكل سبيلِ

يريد أن أنسى.
قال النحاس: وخطّأ الزجاج هذا القول وقال: لو كانت اللام بمعنى أن لدخلت عليها لامٌ أُخرى؛ كما تقول: جئت كي تكرمني، ثم تقول جئت لكي تكرمني.
وأنشدنا:
أردتُ لكيما يعلم الناس أنها ** سراويل قَيْسٍ والوُفُودُ شُهود

قال: والتقدير إرادته ليبين لكم.
قال النحاس: وزاد الأمر على هذا حتى سماها بعض القرّاء لام أن؛ وقيل: المعنى يريد الله هذا من أجل أن يبيّن لكم.
{وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ} أي من أهل الحق.
وقيل: معنى {وَيَهْدِيَكُمْ} يبيّن لكم طرق الذين من قبلكم من أهل الحق وأهل الباطل.
وقال بعض أهل النظر: في هذا دليل على أن كل ما حَرّم الله قبل هذه الآية علينا فقد حُرّم على من كان قبلنا.
قال النحاس: وهذا غلط؛ لأنه يكون المعنى ويبيّن لكم أمر من كان قبلكم ممن كان يجتنب ما نُهِي عنه، وقد يكون ويُبيّن لكم كما بَيّن لمن كان قبلكم من الأنبياء فلا يومَى به إلى هذا بعينه.
ويقال: إن قوله: {يُرِيدُ الله} ابتداء القصة، أي يرِيد الله أن يبيّن لكم كيفية طاعته. اهـ.

.قال ابن عطية:

ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في المشروعات كشرعة من قبلنا، وليس ذلك كذلك، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين، إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهيًا وأمرًا، كما خوطبوا في أيضًا في قصصهم، وشرع لنا كما شرع لهم، فهدينا سننهم في ذلك، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم، والأمر الثاني أن هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا، فوقع التماثل من هذه الجهة، والذين من قبلنا: هم المؤمنون في كل شريعة. اهـ.

.قال أبو حيان:

واختلفوا في قوله: {سنن الذين من قبلكم}، هل ذلك على ظاهره من الهداية لسننهم؟ أو على التشبيه؟ أي: سننًا مثل سنن الذين الذين من قبلكم.
فمن قال بالأول أراد أنّ السنن هي ما حرم علينا وعليهم بالنسب والرضاع والمصاهرة.
وقيل: المراد بالسنن ما عنى في قوله تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا} وقيل: المراد بها ما ذكره في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا} وقيل: طرق من قبلكم إلى الجنة.
وقيل: مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين، والطرق التي سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم، وهذا قريب مما قبله.
وعلى هذا الأقوال فيكون الذين من قبلكم المراد به الأنبياء وأهل الخير.
وقيل: المراد بقوله سنن طرق أهل الخير والرشد والغي، ومن كان قبلكم من أهل الحق والباطل، لتجتنبوا الباطل، وتتبعوا الحق.
والذين قالوا: إنّ ذلك على التشبيه قالوا: إن المعنى أنّ طرق الأمم السابقة في هدايتها كان بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبيان الأحكام، وكذلك جعل طريقكم أنتم.
فأراد أن يرشدكم إلى شرائع دينكم وأحكام ملتكم بالبيان والتفصيل، كما أرشد الذين من قبلكم من المؤمنين.
وقيل: الهداية في أحد أمرين: أما أنا خوطبنا في كل قصة نهيًا أو أمرًا كما خوطبوا هم أيضًا في قصصهم، وشرع لنا كما شرع لهم، فهدايتنا سننهم في الإرشاد، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم.
والأمر الثاني: أنّ هدايتنا سننهم في أنّ سمعنا وأطعنا كما سمعوا وأطاعوا، فوقع التماثل من هذه الجهة.
والمراد بالهداية هنا الإرشاد والتوضيح، ولا يتوجه غير ذلك بقرينة السنن، والذين من قبلناهم المؤمنون من كل شريعة.
وقال صاحب ري الظمآن وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي: قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم}، أي: يريد أن يبين، أو يريد إنزال الآيات ليبين لكم. اهـ.

.قال الفخر:

قال القاضي: معناه أنه تعالى كما أراد منا نفس الطاعة، فلا جرم بينها وأزال الشبهة عنها، كذلك وقع التقصير والتفريط منا، فيريد أن يتوب علينا، لأن المكلف قد يطيع فيستحق الثواب، وقد يعصي فيحتاج إلى التلافي بالتوبة.
واعلم أن في الآية إشكالا: وهو أن الحق إما أن يكون ما يقول أهل السنة من أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، وإما أن يكون الحق ما تقوله المعتزلة من أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى، والآية مشكلة على كلا القولين.
أما على القول الأول: فلأن على هذا القول كل ما يريده الله تعالى فإنه يحصل، فإذا أراد أن يتوب علينا وجب أن يحصل التوبة لكلنا، ومعلوم أنه ليس كذلك، وأما على القول الثاني: فهو تعالى يريد منا أن نتوب باختيارنا وفعلنا، وقوله: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ظاهره مشعر بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا ويحصل لنا هذه التوبة، فهذه الآية مشكلة على كلا القولين.
والجواب أن نقول: إن قوله: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} صريح في أنه تعالى هو الذي يفعل التوبة فينا.
والعقل أيضا مؤكد له، لأن التوبة عبارة عن الندم في الماضي، والعزم على عدم العَوْد في المستقبل، والندم والعزم من باب الإرادات، والإرادة لا يمكن إرادتها، وإلا لزم التسلسل، فإذن الإرادة يمتنع أن تكون فعل الإنسان، فعلمنا أن هذا الندم وهذا العزم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى، فصار هذا البرهان العقلي دالا على صحة ما أشعر به ظاهر القرآن، وهو أنه تعالى هو الذي يتوب علينا، فأما قوله: لو تاب علينا لحصلت هذه التوبة، فنقول: قوله: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} خطاب مع الأمة، وقد تاب عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات، وحصلت هذه التوبة لهم، فزال الإشكالُ، والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
{والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوالكم، حكيم في كل ما يفعله بكم ويحكم عليكم. اهـ.

.قال البغوي:

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم، {حَكِيمٌ} فيما دبر من أمورهم. اهـ.

.قال القرطبي:

{والله عَلِيمٌ} بمن تاب {حَكِيمٌ} بقبول التوبة. اهـ.

.قال السمرقندي:

{والله عَلِيمٌ} بمن فعله منكم بعد التحريم {حَكِيمٌ} فيما نهاكم عن نكاح الإماء إن لم يجد طولًا.
والنهي نهي استحباب لا نهي وجوب.
ويقال: إن هذا ابتداء القصة، يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته {وَيَهْدِيَكُمْ} يعني يعرفكم سنن الذين من قبلكم، يعني أنهم لما تركوا أمري فكيف عاقبتهم؟ وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم، ولكني أتوب عليكم {والله عَلِيمٌ} بمن تاب {حَكِيمٌ} حكم بقبول التوبة. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، هذه الآية تدل بظاهرها على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ونظيرها قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك هي قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الآية.
ووجه الجمع بين ذلك مختلف فيه اختلافا مبنيا على الاختلاف في حكم هذه المسألة:
فجمهور العلماء على أن شرع من قبلنا إن ثبت بشرعنا فهو شرع لنا ما لم يدل دليل من شرعنا على نسخه لأنه ما ذكره لنا في شرعنا إلا لأجل الاعتبار والعمل، وعلى هذا القول فوجه الجمع بين الآيتين أن معنى قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، أن شرائع الرسل ربما ينسخ في بعضها حكم كان في غيرها أو يزاد في بعضها حكم لم يكن في غيرها، فالشرعة إذن إما بزيادة أحكام لم تكن مشروعة قبل وإما بنسخ شيء كان مشروعا قبل فتكون الآية لا دليل فيها على أن ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ولم ينسخ أنه ليس من شرعنا لأن زيادة ما لم يكن قبل أو نسخ ما كان قبل كلاهما ليس من محل النزاع.
وأما على قول الشافعي ومن وافقه أن شرع من قبلنا شرع ليس شرعا لنا إلا بنص من شرعنا أنه مشروع لنا، فوجه الجمع أن المراد بسنن من قبلنا وبالهدى في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}، أصول الدين التي هي التوحيد لا الفروع العلمية بدليل قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الآية.
ولكن هذا الجمع الذي ذهبت إليه الشافعية يرد عليه ما رواه البخاري في صحيحه في تفسير سورة [ص] عن مجاهد أنه سأل ابن عباس من أين أخذت السجدة في (ص) فقال ابن عباس: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، فسجدها داود فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن سجود التلاوة من الفروع لا من الأصول، وقد بين ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجدها اقتداء بداود وقد بينت هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتي فلذلك اختصرتها هنا. اهـ.

.قال في روح البيان:

إن الله تعالى أنعم على هذه الأمة بإرادة أربعة أشياء.
أولها التبيين وهو أن يبين لهم الصراط المستقيم إلى الله.
وثانيا: الهداية وهو أن يهديهم إلى الصراط المستقيم بالعيان بعد البيان.
وثالثها: التوبة عليهم وهى أن يرجع بهم إلى حضرته على صراط الله.
ورابعها: التخفيف عنهم وهو أن يوصلهم إلى حضرته بالمعونة ويخفف عنهم المؤونة.
وهذا مما اختص به نبينا عليه السلام وأمته لوجهين:
أحدهما: أن الله أخبر عن ذهاب إبراهيم عليه السلام إلى حضرته باجتهاده وهو المؤونة بقوله: {إنى ذاهب إلى ربى سيهدين} وأخبر عن موسى عليه السلام بمجيئه وهو أيضا المؤونة وقال: {ولما جاء موسى لميقاتنا} وأخبر عن حال نبينا عليه السلام بقوله: {سبحان الذي اسرى بعبده ليلا} وهو المعونة فخفف عنه المؤونة وأخبر عن حال هذه الأمة بقوله: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} وهو أيضا بالمعونة وهى جذبات العناية.
والوجه الثانى: أن النبي عليه السلام وأمته مخصوصون بالوصول والوصال مخفف عنهم كلفة الفراق والانقطاع فأما النبي عليه السلام فقد خص بالوصول إلى مقام قاب قوسين أو أدنى وبالوصال بقوله: {ما كذب الفؤاد ما رأى} وانقطع سائر الأنبياء عليهم السلام في السموات السبع كما رأى ليلة المعراج آدم في سماء الدنيا إلى أن رأى إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة فعبر عنهم جميعا إلى كمال القرب والوصول.
وأما الأمة فقال في حقهم: «من تقرب إلىّ شبرا تقربت إليه ذراعا» فهذا هو حقيقة الوصول والوصال ولكن الفرق بين النبي والولى في ذلك أن النبي مستقل بنفسه في السير إلى الله والوصول ويكون حظه من كل مقام بحسب استعداده الكامل والولى لا يمكنه السير إلا في متابعة النبي وتسليكه في سبيل الله {قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى} ويكون حظه من المقامات بحسب استعداده فينبغى أن يسارع العبد إلى تكميل المراتب والدرجات برعاية السنة وحسن المتابعة لسيد الكائنات. قال جنيد البغدادى قدس سره مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة. قال على كرم الله وجهه الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.